في خضم النقاش الدائر حول العلاقة بين النقد الأكاديمي والنقد غير الأكاديمي، والذي أعاد الأستاذ أمجد نجم الزيدي فتحه في مقاله الأخير "الناقد خارج الجامعة – استقلالية الفكر وحدود التلقي الأكاديمي" (المنشور في الصباح بتاريخ 1/6/2025)، تتبدى الحاجة إلى مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين السياقات الثقافيَّة، وتبتعد عن الثنائيات الجاهزة التي تقابل بين الجامعة بوصفها فضاء للجمود، وخارجها كمساحة للحرية.
يميل هذا التصور الثنائي إلى تقديم صورة مبسطة وربما غير دقيقة للواقع النقدي. فالقول بأنّ المؤسسة الأكاديميَّة تعيق التجديد، مقابل تمجيد النقد المستقل بوصفه بديلاً تحرريّاً، يغفل عن أنّ المسارات الإبداعيَّة في الفكر والنقد أكثر تعقيداً وتداخلاً من أن تُحصر في هذا الانقسام الحاد. لا بل إنّ العلاقة بين المؤسسي والمستقل هي – في أحسن أحوالها – علاقة توتر خصب، لا خصومة معطِلة.
إنَّ الحديث عن جمود المؤسسة الأكاديميَّة لا يصمد أمام نماذج بارزة من الجامعات الغربيَّة، حيث لم تكن المؤسسة عائقاً، بل كثيراً ما كانت حاضنة للحركات النقديّة الطليعيّة. من جامعة فرجينيا خرجت ريتا فيلسكي لتقود حركة "ما بعد النقد" عبر أعمالها "حدود النقد" و"استخدامات الأدب"، والتي دعت إلى تجاوز الارتياب المنهجي نحو قراءة تستعيد العلاقة الجمالية والوجدانية مع النصوص. لم تأتِ هذه الدعوة من خارج الجامعة، بل من داخل واحدة من أبرز مؤسساتها.
أما برونو لاتور، الفيلسوف وعالم الاجتماع، فقد أعاد النظر في دور النقد نفسه، منتقداً ما أسماه "الشك التلقائي" الذي يُمارس باسم التنوير. في كتابه We Have Never Been Modern، انطلق من أسس علمية وفكرية وأكاديمية صلبة ليتجاوز الأنماط النقدية المكررة، وكل ذلك من داخل الأطر الجامعية.
وفي حقل دراسات ما بعد الكولونيالية، نجد أن هومي بابا طور نظرية "الهجنة الثقافية" داخل جامعة هارفارد، وأصدر كتابه المؤثر "موقع الثقافة" بوصفه عملاً أكاديمياً نقدياً ثورياً. أما إدوارد سعيد، فأنتج كتابه "الاستشراق" أثناء عمله في جامعة كولومبيا، وبه غيّر مسار الدراسات الإنسانية الغربية برمتها. هذه الأمثلة تدحض بشكل واضح مقولة إن المؤسسة الأكاديمية تقف بالضرورة ضد الإبداع أو التفكير الجذري.
في المقابل، فإن السياق العربي يُقدّم صورة مغايرة إلى حد كبير. فضعف الإمكانيات، والقيود الإدارية والسياسية، والتمسك بالمناهج الجاهزة، كلها عوامل جعلت من المؤسسة الأكاديمية العربية فضاءً أقرب إلى التقليد منه إلى الإبداع. هذا ما دفع كثيراً من المفكرين والنقاد إلى أن يشتغلوا خارج هذه المؤسسة، إما استقلالاً، أو كتحرّر جزئي من قيدها.
من أبرز هذه النماذج محمد عابد الجابري، الذي أنجز مشروعه الفلسفي "نقد العقل العربي" خارج منطق الأطروحات الأكاديمية المحدودة، رغم انتمائه الجامعي الرسمي. كذلك، قدّم أدونيس كتابه "الثابت والمتحول" مقاربة نقديّة تأويليّة للتراث العربي خارج الإطار الأكاديمي الصارم، وهو الذي لم ينخرط يوماً في المسار الجامعي التقليدي.
ولا يقل أهمية جورج طرابيشي، الذي شق مساراً فكريّاً نقديّاً حرّاً ومستقلاً، من خلال ترجماته الفلسفيّة وتأمّلاته النقديّة في الفكر العربي والإسلامي، في أعمال مثل "هرطقات" و "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث". هذه النماذج العربية المستقلة قدّمت مشاريع نقديّة ضخمة، وخلقت تراكماً معرفيّاً لا يقل وزناً عن نظيره المؤسسي – إن لم يَفقه في بعض الأحيان.
لكن من الضروري أن نُقر بأن هذا النجاح لا يُخفي التحديات التي تعترض النقد خارج المؤسسة، لا سيما حين يغيب الانضباط المنهجي. ففي السنوات الأخيرة، بتنا نشهد انتشاراً واسعاً لما يُسمى بـ "النقد الثقافي" على المنصات الرقميّة، لكنه في كثير من الحالات لا يتعدى كونه انطباعات ذاتية، أو آراء سريعة غير مؤسسة على مرجعيات نقدية أو أدوات تحليلية واضحة. هذه الظاهرة تخلق حالة من الضبابية، وتُسيء – من حيث لا تحتسب – إلى مفهوم النقد بوصفه فعلاً معرفياً.
إن ما تحتاجه هذه القضية هو الابتعاد عن الثنائية المُعطّلة "الجامعة مقابل الحرية". ففي السياق الغربي، التحدي الحقيقي هو الحفاظ على توازن بين الحرية الأكاديمية والمسؤولية المعرفية. أما في السياق العربي، فإنّ النقد المستقل ليس خياراً مثالياً، بل غالباً ما يكون استجابة اضطراريَّة لجمود المؤسسة، لا بديلاً دائماً عنها.
ومن ثمَّ، فإنَّ إصلاح المؤسسة الأكاديميَّة من الداخل لتصبح أكثر مرونة وانفتاحاً على المناهج الحديثة والتجارب النقديّة العالميّة، هو ضرورة لا يمكن تجاوزها. وفي الوقت ذاته، ينبغي تطوير معايير مستقلة للنقد غير الأكاديمي، تضمن الحد الأدنى من الجودة والرصانة، من دون أن تفرض عليه قيوداً بيروقراطية.
فالمعركة الحقيقية ليست بين "داخل" و"خارج"، بل بين أنماط مختلفة من الإنتاج المعرفي، بعضها يعيد إنتاج الجمود، وبعضها يفتح آفاقاً جديدة. وما نحتاجه هو بيئة نقديّة مرنة ومفتوحة، يُتاح فيها التفاعل بين المؤسسي والمستقل، لا أن يكون أحدهما بديلاً عن الآخر.
النقد ممارسة إنسانيّة لا تنحصر في مؤسسة، ولا تتفرّد بها فئة. لكنه لكي يكون فعّالاً ومؤثراً، لا بدَّ له من فضاء يحترم العقل، ويشجع على التعدد، ويؤمن بالشك الخلّاق لا الارتياب المُعطِّل.
بين
داخل الجامعة وخارجها، تكمن فسحة أمل لنقد عربي جديد، يستلهم من تجارب الغرب
انفتاحه، ومن معاركه استقلاليته، ويؤسس لمستقبل لا يضيق بالنص، ولا يُقصي الناقد.
على الاقل اذكر اسم كاتب المقال، هذا المقال مأخوذ من جريدة الصباح، وانا صاحب المقال، المصداقية مطلوبة، اليس كذلك؟
ردحذفإرسال تعليق