في عودة لصحافة الأربعينيات، نقرأ في مجلة " الرسالة " * المصريَّة مقالاً بعنوان " فن يستيقظ " للفنان نوري الراوي، وهو يحمل صيحةً إهابةً تستثير همم الفنانين، وتدعوهم للبحث عن مصادر لإلهامهم في ميادين الفن العربي، وفي الدعوة إشارةٌ صريحةٌ إلى دور الفن في بناء الحضارة، ومع أن الكاتب توصّل بشكل مبكر وغير مسبوق على ما نظن، إلى معرفة أولية مدارس الفن الحديث وتياراته، إلا أن قناعاته الفكرية بضرورة استلهام الفنون العربية والإسلامية، قادته إلى مثل هذا التوجه في البحث عن الينابيع.
لقد لاحت في أفق العقد الأربعيني من القرن الماضي أولى بوادر التنظير في مجال الفن التشكيلي العراقي، بصدور مجلة (الفكر الحديث) عام 1942 لصاحبها الفنان جميل حمودي، والتي تخصصت بالفن والنقد كأول محاولة تأسيسية للنقد الفني في العراق.
هذا الاستشفاف المبكّر لمآتي المستقبل، والتوقع الحدسي لصورة الغد، منظورة من زاوية الانتماء للأرض وللتاريخ، يكتشفها بوعي أكثر نضوجاً، وأشدّ وضوحاً، الفنان جواد سليم. إذ يكتشف "الواسطي" بطريق الصدفة عندما يطّلع على صور لنمنماته لدى صديقه عطا صبري، ولما كان إحساسه بالاِنتماء إلى تقاليد الفن الرافديني، بدأ ينمو في ظلال المتحف العراقي أيامذاك، فكان لهذا الاكتشاف فعل السحر في نفسه، وتأثيره فعال في ذاته، ظل حتى آخر حياته.
وعندما كتب له صديق: " بأن العراق بلد عديم الألوان، وهو لهذا لا يصلح لمعيشة الرسّام فيه" أجابه جواد في رسالة تقول: " يا أخي الدنيا كلها ألوان، حتى في وحل شارعنا ملايين الألوان، خذ يحيى الواسطي، أعظم من ظهر من المصوّرين في العراق، العراق الذي تدّعي فيه عديم الألوان، بلاد النخيل، أنه خلّد العراق بصوَره وألوانه، أتذكر صورته في مجموعة لمقامات الحريري؟ إنها صورة تمثّل مجموعة جِمال العراق، تذكّرها جيداً، لا يتعدى لونها لون التراب، لقد صوّرها هذا العبقري العظيم، كل جمل لون يتناسب مع اللون الذي بجانبه". ولكن جواد لم ينقل الواسطي حين رسم سلسلة بغدادياته الشهيرة، بل حاول تمثيل التراثي وصولاً إلى العصري الذي يملك قدرة التواصل مع الإنسان والامتداد مع الزمن في آن واحد. وهذا هو جوهر بيان جماعة بغداد للفن الحديث، الذي يعدّ أول وثيقة فنية منهجت تواصلات الفن العراقي وأضاءت دروب النقد الفني، ووجّهت الأنظار إلى أن مهمة البحث في " عراقية " الفن، لا تأتي إلّا من الوعي التام بالانتماء للعصر وفهم مدارسه الفنية من دون إغفال لانتمائه الحضاري.
مجازياً، يؤكد جواد على ألوان وحل الشارع في خطابه لصديقه، وهو تعبير (أرضي) حاضر في إحساس النحات أكثر منه في إحساس الرسام، كما أنه يمثّل رمزيا الارتباط المشيمي بالتراب – الرمز الذي ظل له وفياً طوال حياته. في الوقت الذي كان الجمهور فيه يطالب الفنان شرح أعماله الفنية، أو تفسير غوامضها بإلقاء الضوء على جانب من تكويناتها أو معانيها، كانت جمعية (أصدقاء الفن) تقيم سلسلة معارضها الفنية في حدود عام 1946. ولعلّ مثل هذه البداية تؤشّر مرحلة ظهور النص الكتابي، الذي قد يحمل نقداً أو شرحاً أو استعراضاً لمعرض فني.
في قراءة لتلك النصوص، نتوقف عند مقال مكثّف نُشر في مطبوع صغير بعنوان (الوقت الضائع) كان يصدره الفنان نزار سليم خلال سني الأربعينيات، تضمن رأياً نقدياً لساطع الحصري في أعمال الرسام فائق حسن، يقول عنها: إن أقوى ما عرض هي صورة " فالنتين، فيها تظهر مقدرته في الرسم ودقّته وتأثره بالمدرسة الألمانية الكلاسيكية، لكن تكنيكه العالي لا يكفي، عليه أن (يعصّر) أسلوبه أولاً". كانت محاولات شخصية متواضعة متأثرة بالوضع المزاجي للكاتب. وقراءات ثقافية لا تثير الأسئلة، وبعيدة عن الجدل.
تضمنت مقدمة دليل معرض الفنانين البولونيين الذي أقيم في بغداد 1943، التي ترجمها باهر فائق عن الفرنسية، اشارتان على جانب كبير من الأهمية، أولاهما ورود أول نص عربي يضع مصطلح (فن التشكيل) مقابل النص الفرنسي (L,art plastique)، والثانية نداء الفنانين البولونيين لزملائهم العراقيين ليبصّروهم بإقبال العصر، وتدفق ينابيع الفن الإنساني الذي يحمل الحقائق الجديدة.
في العدد السادس من مجلة (المجالي) 10 تموز 1945، وهي مجلة فنية مصوّرة جامعة كانت تصدرها نخبة من الشباب، كتب الأديب الفنان صبري الذويبي مقالة أحسبها أول توجه فكري عراقي يتناول النقد الفني من جانبه الفلسفي، فهو يؤكد أن الفن كالحق والجمال غير قابل للتحديد، وإزاء هذا العجز في إيجاد مقياس معين للنقد الفني، نجد الناس مضطربين أي اضطراب تجاه الفن.
مُرسل ثم يخلص إلى القول بأن الفن هو النظير العكسي للعلوم الطبيعية والرياضيات، لذا فهو لا يخضع لمقاييسها، بل لاعتبارات جمالية وذوقية وأسلوبية تعتمد على الفهم العميق لطبيعة الفن. افتتاحية عدد المجلة دعت إلى (احتراف الفن) مع تأمين جانب العيش الكريم للفنان منذ ذلك التاريخ، ليجعل من فنّه مناراً لبناء الإنسان.
في العدد الثامن من مجلة (الرابطة) 16تموز 1944 يتناول جميل حمودي موضوعاً حيوياً في مقاله (الفن في العراق) يمكن وصفه بـ (نقد النقد)، ثم يكثّف خلاصته في نقطتين:
1- انعدام التربية الفنية الصحيحة، لأنها ذات شأن مهم في توجيه الناشئة إلى تذوّق الجمال وتشجيعه.
2- إن من نسميه (الناقد الفني) الحقيقي لا وجود له في البلد، ويصعب على الجمهور تذوّق الفن من دون ناقد يدرس ويحلل ويكتشف.
في أواخر هذه الفترة المشحونة بالانفعال والعمل الفني الدائب، تقيم مجلة (الفكر الحديث) التي كان يصدرها جميل حمودي، معرضاً للرسم والنحت، ونقرأ استعراضاً نقدياً له في مجلة (الكاتب المصري) العدد الرابع في أيلول 1946، كتبه صاحب الصباغ، تناول أعمال الفنانين المشاركين: جميل حمودي، نزيهة سليم، جواد سليم.
إن ما يصيب الفن من نضوج وعميق بحث عن الدواخل، يصيب النقد الفني بوضع موازن، لهذا فأن محاولات الكتابة النقدية الجادة تبدأ بالظهور كلما تقدّمت الحركة الفنية شوطاً جديداً في طريق النمو والتطور، بينما تنحسر الكتابات المسطّحة والإنشائية. فيما برزت في أفق الخمسينات من القرن الماضي أسماء فنية قدمت معالجات لقضايا الفن ومتابعة معارضه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: عطا صبري، جبرا ابراهيم جبرا، شاكر حسن آل سعيد، نزار سليم، ولفترة قصيرة جداً، عدنان راسم وأرداش كاكافيان وغيرهما.
أقلام النقاد كما تبدو لمتابع فترة الخمسينيات، متمايزة الألوان، مختلفة المستويات، الفنان عطا صبري يكتب مقالاً في مجلة (أهل النفط) عام 1954، يتناول فيه أعمال الفنانين المشاركين في معرض فني في بغداد من وجهة نظر أستاذ للفن يستأثر اهتمامه بناء اللوحة، ثم الكتلة واللون والضوء والتأليف الإنشائي والتكنيك والتصميم.
الفنان شاكر حسن آل سعيد، يحمل تاريخه ومآ ثره الفنية ومجاهداته النفسية وتوجهاته الفكرية، عبر سنين طويلة من الكتابات النقدية، وممارسة العمل الفني، وكأنه مرتهن بالمثول أمام لحظات الكشف عن غوامض الفن، برفع الحجاب تلو الآخر محدواً بقوة الذهن المستنير للكشف عن لحظات الافتتان بولادة الأعمال الإبداعية، في مقالة نشرها في مجلة (الأسبوع) عام 1953.
بروح تأملية واضحة، يعبّر الفنان نوري الراوي عن رؤيته لمعرض الرسم والنحت العراقي في مجلة الآداب اللبنانية آذار 1956، ويشير إلى أعمال الفنانين،، التي تتوزع بين تقاليد الموروث الشرقي المتميز بالنقاء والعفوية والصراحة الخطية، وتقاليد الفن الغربي ( المدرسة الفرنسية على وجه الدقّة)، وهي لهذا السبب تعد استئنافاً لدراستهم الفنية في معاهد الغرب، ولا بدَّ من التنويه إلى دور الفنان شاكر آل سعيد في تعميق المفاهيم النظرية في الفن عبر مقالاته النقدية، التي نشرت في جرائد الخمسينات هما: ( الفن الشعبي من منابع الفن الحديث)، و(الرسم من مادة الحياة).
كما كتب الأديب الناقد جليل كمال الدين مقالاً طويلاً عن معرض جمعية الفنانين العراقيين الثاني في العدد السابع من مجلة (الآداب) البيروتية الصادرة في آب 1957، استعرض فيه الأبعاد الأربعة في الأعمال المعروضة هي: البعد الزمني، البعد المكاني أو البيئي، البعد التكنيكي وأخيراً البعد الموضوعي. غير أن ما ذهب إليه لا يتعدى الملاحظات الأدبية.
لكن مَعلماً من معالم الطريق يقيمه الكاتب والفنان والمترجم والناقد جبرا إبراهيم جبرا على سبيل النقد الفني في العراق، حين يسجل في مقالة عن (الحركة الفنية في العراق) في مجلة العالم 1957، نموذجاً نقدياً جديداً يصل ما بين عين الفنان والقارئ المثقف، بشكل يمنح الفن الجديد قدسية وتألقاً، فيما هو يشرح خصائص الحركة ومآتيها المستقبلية بوعي عميق، ورؤية نافذة.
كما تجدر الإشارة إلى المساهمات النقدية لكتاب آخرين مهّدوا للدخول في المراحل التي أعقبتها، وأمدّوها بروح النقد العلمي الجاد، وهي الحالة التي ارتقى إليها النقد في أعوام الستينات، ثم أضافوا إليها طاقات فكرية جديدة منحتها قدرة التوازن مع الأحداث التي أفرزتها.
يكتب الشاعر بلند الحيدري في مجلة (المثقف)، العددان 11،12 آب 1959، عن تاريخ لم يسلم من الهوى والانحسارات، ولكنه، بالرغم من ذلك، انتصر على ضعفه، وتجاوز ذاته حين تحوّلت جرأته في اقتحام تيارات الفن الحديث، إلى قيمة أخلاقية أكد من خلالها وجوده المؤثر في المحيط الثقافي والفكري. من بريد Yahoo لجهاز iPad نظرة تأملية متأملة في كل ما صنعته اليد العراقية من جمال وأعمال فنية خالدة في التكوين والتأليف والإنشاء واللون، إلا أن المحاولات النقدية ظلت عاجزة عن ملاحقة هذه التحولات بما يوازيها، أو يحاكيها بنفس المستوى، غير أن العقود التي أعقبت خمسينات القرن الماضي شهدت حركة فاعلة ومؤثرة في تعميق الفكر الفني، والتواصل مع تيارات الفن العالمي الحديثة، إذ كنا نحتاج حقاً إلى رصد جميع ما أنجزه نقّاد الفن التشكيلي من آثار أصيلة وضعت القيم الفنية والنقدية على مداراتها الصحيحة.
إن الكتّاب الذين خاضوا غمار هذه اللجّة، وما زال البعض منهم يواصل الكتابة في هذا الميدان، هم الذين أسهموا في إشاعة قيم الجمال، وامتلاك الحلم، ما يحملنا على القول بأن شكل الحقيقة الفنية، بدأ أشدّ وضوحاً وتألقاً من خلال كتاباتهم، نخص بالذكر منهم: نزار سليم، جميل حمودي، كاظم حيدر، عبد الرحمن طهمازي، شوكت الربيعي، محمد الجزائري، سهيل سامي نادر، عادل كامل، وغيرهم ممن عايش الفترة الزمنية، أو جاء بعدها بسنين.
لقد أدرك هؤلاء أنهم يجب أن يبدعوا صوتهم
الحقيقي الخاص، فنظروا إلى ما وراء الأفق، واستعاروا مفردات الأساليب الفنية
الحديثة، فكانت محاولاتهم في الكتابة انعطافةٌ جديدةٌ ذات إيقاع مختلف.
إرسال تعليق